فصل: الرَّابِعَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الرَّابِعَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فاجرا كفارا} أَيْ صَائِرًا إِلَى الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ.
وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا} أَيْ: لِأَنَّ الَّذِي تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْبُرُّ لَا الْخَبْزُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ إِنَّمَا اقْتَصَرُوا فِي التمثيل على قوله: {أعصر خمرا} أَيْ: عِنَبًا فَعَبَّرَ عَنْهُ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ وَقِيلَ: لَا مَجَازَ فِيهِ فَإِنَّ الْخَمْرَ الْعِنَبُ بِعَيْنِهِ لُغَةٌ لِأَزْدِ عُمَانَ نَقْلَهُ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ لِابْنُ دُرَيْدٍ.
وَقِيلَ: اكْتَفَى بِالْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْعِنَبُ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي في الخصائص.
وقيل: ولا مَجَازَ فِي الِاسْمِ بَلْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ {أَعْصِرُ} فَإِنَّهُ أُطْلِقُ وَأُرِيدُ بِهِ اسْتَخْرِجُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَزِيزٍ فِي غَرِيبِهِ.
وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تنكح زوجا غيره} سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا.
وقوله: {فبشرناه بغلام حليم} {وبشروه بغلام عليم} وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ.
تَنْبِيهٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ وَإِرَادَتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {فتبسم ضاحكا} مقدار ضحكه.
وكذا قوله: {وخروا له سجدا} على قول أبي علي وهذا حَمْلٌ مِنْهُ لِلْخُرُورِ عَلَى ابْتِدَائِهِ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى انْتِهَائِهِ كَانَتِ الْحَالُ الْمَلْفُوظُ بِهَا نَاجِزَةً غير مقدرة.
وكذلك قوله: {فادخلوها خالدين} أَيِ: ادْخُلُوهَا مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مُدْخَلًا كَرِيمًا مُقَدِّرًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ لِسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ وَلَوْ تَوَهَّمَ انْقِطَاعَهُ لِتَنَغَّصَ عَلَيْهِ النَّعِيمُ النَّاجِزُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الِانْقِطَاعِ اللَّاحِقِ.

.الْخَامِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا اليتامى أموالهم} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقِيلَ: بَلْ هُمْ يَتَامَى حَقِيقَةً وَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» فَهُوَ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ لَا اللُّغَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ.
وقوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وَإِذَا مِتْنَ لَمْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا فَسَمَّاهُنَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَزْوَاجًا وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ ينكحن أزواجهن} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ.
وَكَذَلِكَ: {وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا} لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ.
وَقَوْلِهِ: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما} سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْإِجْرَامِ.
وقوله: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} وَلَكِنْ مَا رُدَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا قد اشتروا بها الميرة فجعلها يوسف فِي مَتَاعِهِمْ وَهِيَ لَهُ دُونَهُمْ فَنَسَبَهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ.

.السَّادِسَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ:

كَقَوْلِهِ: {فَلْيَدْعُ ناديه}.
وقوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أَيْ: نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}.
وَكَالتَّعْبِيرِ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَنَحْوُهُ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قلوب لا يفقهون بها} أَيْ: عُقُولٌ.
وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قالوا آمنا بأفواههم} {يقولون بأفواههم}.
وَإِطْلَاقُ الْأَلْسُنِ عَلَى اللُّغَاتِ كَقَوْلِهِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين}.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِهَا نَحْوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}.

.السَّابِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فيها خالدون} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ.
وَقَوْلِهِ: {بل مكر الليل والنهار} أَيْ: فِي اللَّيْلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {إذ يريكهم الله في منامك} أَيْ: فِي عَيْنِكِ وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَ: يَعْنِي فِي رُؤْيَاكَ.
وَقَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا} وَصَفَ الْبَلَدَ بِالْأَمْنِ وَهُوَ صِفَةٌ لِأَهْلِهِ وَمِثْلُهُ: {وهذا البلد الأمين} {إن المتقين في مقام أمين}.
وقوله: {بلدة طيبة} وَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ وَهُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا.
وَقَدِ اجْتَمَعَ هذا والذي قبله في قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عند كل مسجد} وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَحَلَّ الزِّينَةِ وَلَا يَجِبُ أَخْذُ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الصَّلَاةَ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ وَفِي الزِّينَةِ بِالْعَكْسِ.

.الثَّامِنَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ آلَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدق في الآخرين} أَيْ: ذِكْرًا حَسَنًا.
أَطْلَقَ اللِّسَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ اللسان آية للذكر.
وقال تعالى: {تجري بأعيننا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ آلَةَ الرُّؤْيَةِ وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بلسان قومه} أَيْ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ.

.التَّاسِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة مثلها} وَهِيَ مِنَ الْمُبْتَدِئِ سَيِّئَةٌ وَمِنَ اللَّهِ حَسَنَةٌ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ.
وَعَكْسُهُ: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان} سُمِّيَ الْأَوَّلُ إِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِجَزَائِهِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالْأَوَّلُ طَاعَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ جَزَاءُ الطَّاعَةِ إِلَّا الثَّوَابُ!
وَكَذَلِكَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ فَخَرَجَ الِانْتِقَامُ بِلَفْظِ الذَّنْبِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْكُرُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلا القوم الخاسرون} فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ مَكْرِهِمْ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَبْلَهُ مَا يَصِيرُ إِلَى مَكْرٍ وَالْمُقَابَلَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذِكْرُ الْمُقَابِلِ لَفْظًا بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم} لَمَّا قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْجَنَّةِ قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْخَيْرِ لَا فِي الشَّرِّ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فإنا نسخر منكم} وَالْفِعْلُ الثَّانِي لَيْسَ بِسُخْرِيَةٍ.

.الْعِشْرُونَ: تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفِ عَنْهُ:

لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تسجد} يَعْنِي: مَا دَعَاكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ وَاعْتَصَمَ بِذَلِكَ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ (لَا).
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا حماك فِي أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَيْ مَا جَعَلَكَ فِي مِنْعَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ تَرْكِ السُّجُودِ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَأَنَّ تَرْكِيبَهُ ما يمنعك سؤالا عَمَّا يَمْنَعُهُ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لَا تَخْوِيفَ بِمَاضٍ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي الْأَمَنَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَمْنُكَ حَتَّى خَالَفَتْ! بَيَانًا لِاغْتِرَارِهِ وَعَدَمِ رُشْدِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ وَحَالُهُ حَالُ مَنِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ فكنى عنه بما مَنَعَكَ تَهَكُّمًا لَا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جَسَرَ جَسَارَةَ مَنْ هُوَ فِي مِنْعَةٍ.
وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَجَابَ {أَنَا خَيْرٌ} وَهُوَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا إِلَّا لِتَرْكِ السُّجُودِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لم يجب ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه.

.الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى:

وَلَهُ صور:
فمنه: فاعل بمعنى مفعول كقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله} أَيْ: لَا مَعْصُومَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دافق} أي: مدفوق.
و: {في عيشة} أَيْ: مَرَضِيَّةٍ بِهَا وَقِيلَ عَلَى النَّسَبِ أَيْ: ذَاتِ رِضًا وَهُوَ مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا تَرْكِيبٍ.
وقوله: {أنا جعلنا حرما آمنا} أي: مأمونا.
وعكسه: {إنه كان وعده مأتيا} أَيْ: آتِيًا.
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حجابا مستورا} أَيْ: سَاتِرًا وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ عَنْ أصل اللُّغَةِ وَتَأْوِيلُ الْحِجَابِ الطَّبْعُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ أَيْ مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ وَلَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ.
وَالْمَعْنَى: مَسْتُورٌ عَنْكَ وَعَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَيْ حِجَابًا عَلَى حِجَابٍ وَالْأَوَّلُ مَسْتُورٌ بِالثَّانِي يُرَادُ بِذَلِكَ كَثَافَةُ الْحِجَابِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا.
قال أبو الفتح في كتابه هذا الفد: وَسَأَلْتُهُ-يَعْنِي الْفَارِسِيَّ- إِذَا جَعَلْتَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَعَلَامَ تَرْفَعُ الضَّمِيرَ الَّذِي فِيهِ؟ أَعْلَى حَدِّ ارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَمِ اسْمِ الْمَفْعُولِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ارْتَفَعَ الضَّمِيرُ فِيهِ ارْتِفَاعَ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ جَاءَ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ.
وَمِنْهُ (فَعِيلٌ) بِمَعْنَى (مَفْعُولٍ) كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ على ربه ظهيرا} أَيْ: مَظْهُورًا فِيهِ وَمِنْهُ ظَهَرْتُ بِهِ فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ.
أَمَّا نَحْوُ: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ مُؤْلِمًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ آلَمَ ثُمَّ زَالَ وَأَلِيمٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ قَالَ: وَلِهَذَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ إِلَّا سِيبَوَيْهِ أَنْ يُعَدَّى فَعِيلٌ.
وَمِنْهُ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فُعُولٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أو أراد شكورا} وَقَوْلِهِ: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ هُنَا بَلِ الْمُرَادُ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ شكرا أَصْلًا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي قَصْدِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفْيِ الْأَنْوَاعِ.
وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ شُكْرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: إِقَامَةُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ: تَكْذِيبٌ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {بأيكم المفتون} أَيِ: الْفِتْنَةُ.
وَمِنْهُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإنهم عدو لي} قَالُوا: إِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدَاوَةٌ.
وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ علمه} أَيْ: مِنْ مَعْلُومِهِ.
وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ العلم} أي: من العلوم.
وقوله: {صنع الله} أَيْ: مَصْنُوعَهُ.
وَقَوْلِهِ: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: مُتَرَحَّمٌ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَعِينُونِي بقوة} أَيْ: مُقَوًّى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ زُبَرَ الْحَدِيدِ وَالنَّفْخَ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} أَيْ: مَظْلُومًا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أَيْ: مَكْذُوبٍ فِيهِ وَإِلَّا لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَأَشْكَلَ لَأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ فِي النَّحْوِ بِدَمٍ كَذِبًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ {جَاءُوا} فِيهِ مَعْنَى: (كَذَبُوا كَذِبًا) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {والعاديات ضبحا} لِأَنَّ الْعَادِيَاتِ بِمَعْنَى الضَّابِحَاتِ.
وَعَكْسُهُ: {وَإِنَّهُ لَذُو علم لما علمناه}.
وَمِنْهُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ بعد ذلك ظهير}.
وقوله: {خلصوا نجيا}.
وقوله: {وحسن أولئك رفيقا}.
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ جَمْعًا وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَإِنَّهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ {قَعِيدٌ} أُسْنِدَ لَهُمَا.
وَقَدْ يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ عَنْ لَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنَاهُ لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يقولون نحن جميع منتصر} فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ يَقْضِي بِإِعْرَابِ مُنْتَصِرٌ خَبَرًا.
وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أولادهن} أَيْ: لَيُرْضِعِ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ.
وَقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أَيْ: تَتَرَبَّصُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا.
وَقَوْلِهِ: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنين دأبا} وَالْمَعْنَى: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَذَرُوهُ في سنبله}.
وقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} مَعْنَاهُ: آمِنُوا وَجَاهِدُوا وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالْجَزْمِ فِي قوله: {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي قوله: {هل أدلكم} لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَإِدْخَالَ الْجِنَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدين.
والتحقيق ما قاله النبلي: أَنَّهُ جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَى التِّجَارَةِ سَبَبًا لِوُجُودِهَا وَالتِّجَارَةُ هِيَ الْإِيمَانُ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {تُؤْمِنُونَ} فَعُلِمَ أَنَّ التِّجَارَةَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ هِيَ الْإِيمَانُ فَالدَّلَالَةُ سَبَبُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ سَبَبُ الْغُفْرَانِ وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ تَأْكِيدٌ وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ الطَّلَبَ فِي تأكده بخبر الصادق الذي لابد مِنْ وُقُوعِهِ وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالْخَبَرِ الْمَاضِي كَانَ آكَدَ.
وَمِنْهُ: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مدا} وَالتَّقْدِيرُ: مَدَّهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا.
وَقَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ولنحمل خطاياكم} أَيْ: نَحْمِلُ.
قَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلُغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ كَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مَقْصُودُهُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ يُشْبِهُ الْخَبَرَ فِي إِيجَابِهِ.
وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فيكون} قَالَ: {كُنْ} لَفْظُهُ أَمْرٌ وَالْمُرَادُ الْخَبَرُ وَالتَّقْدِيرُ: يَكُونُ فَيَكُونُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُوَ يَكُونُ قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى رَفْعِ {فَيَكُونُ} وَرَفَضُوا فِيهِ النَّصْبَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَسَوَّغَ النَّصْبُ لِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {نَقُولَ} فَيَجِيءُ النَّصْبِ على الفعل المنصوب لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا الْعَطْفُ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ {قال} ماض و: {يكون} مُضَارِعًا فَلَا يُحْسِنُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِهِمَا.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيُّ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ النَّهْيِ كقوله: {لا تعبدون إلا الله} وَمَعْنَاهُ: لَا تَعْبُدُوا.
وَقَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ولا تخرجون أنفسكم} أَيْ: لَا تَسْفِكُوا وَلَا تَخْرِجُوا.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا.